بقلم: عثمان محمد إدريس
لم يكن لـ (منطــق أرسطو) مجال في (علم أصول الفقه) في العصور المتقدمة؛ فقد ألّف الإمام الشافعي (رحمـــه الله) كتابه الأصولي الموسوم بـ(الرسالة) بلسان عربي مبين خالٍ من لسان أهل (يونان)..
والمشهور لــدى الباحثين(1) أن أول مؤلّف أصولي امتزجت مسائله ببعض المباحث المنطقية إنما كان في أواخر القرن الخامس الهجري(2)!!
وفي هذا الـمقال: يود الباحث تسليط الـضـــوء عـلـــى أحد المباحث الأصولية التي اشتهر استعمال بـعـض الأقيسة المنطقية فيها، وهو: (ترتيب مقدمات الحكم الشرعي) ملتزماً فيه المنهج العلمي في الاستدلال والمناقشة والترجيح، بعيداً عن التعصب والتقليد المذمومَين..
- البيــان -
الحكم الشرعي لأي فــرع فقهي إنما يترتب على مقدمتين فأكثر(3)؛ تشمل الأولى: الدليل التفصيلي، وتشمل الأخرى: القاعدة الأصولية.
ولما كانت غاية الأصولـيـيـن مـــن وضـــع القواعد الأصولية هي: التوصل إلى حكم شرعي صحيح؛ فقد بحثوا أيضاً كيفية استعمالها للتوصل إلى ذلك.
ولكنهم أثناء بحثهم لهذه المسألة اختلفـــوا في جواز استعمال (القياس المنطقي) والاستفادة منه في ترتيب تلك المقدمات.
الأقيسة المنطقية المتعلقة بكيفية التخريج:
يـذكـــر بـعــــض الأصوليين(4) ـ وهم الذين يرون جواز استعمال القياس المنطقي في عملية التخريج ـ اسـتـعـمـال نوعين من الأقيسة المنطقية في هذا المجال، هما: القياس الاقتراني الحملي، والقياس الاستثنائي المتصل.
أ- القياس الاقـتراني الحملي:
وهو ما تَكَوّنَ من قضايا حملية فقط (5)، ومثاله قولهم:
كل جسم مؤلّف
وكل مؤلف مُحدَث
إذن، كل جسم مُحدَث.
قال صدر الشريعة عبيد الله بن مسعود (رحمه الله): (.. مثلاً إذا قلنا: الحج واجب؛ لأنه مأمور الشارع، وكل ما هو مأمور الشارع فهو واجب.
فالقواعد التي يـتـوصـــل بها إلى الفقه، هي: القضايا الكليّة التي تقع (كبرى) لـ(صغرى) سهلة الحصول عند الاسـتـدلال على مـسـائل الفقه بالشكل الأول، كما في المثال المذكور، وضم القواعد الكلية إلى (الصغرى) السهلة الحصول، ليخرج المطلوب الفقهي من القوة إلى الفعل، وهو معنى التوصل بها إلى الفقه)(6).
ويقول الدكتور يعقوب الباحسين: (أما كـيـفـيـة اسـتـنباط الأحكام الشرعية الفرعية: فإن الفقيه المجتهد يأخذ القاعدة الكلية التي توصــــل إليهـا علماء الأصول، فيجعلها مقدّمة كبرى في القياس الحملي، أو ملازمة في القياس الاسـتـثـنـائـي، بعـد أن يقدّم لها بمقدمة صغرى، موضوعها جزئي من جزئيات تلك القاعدة، ودليل تفصيلي يـعـرفــه الفقيه بيسر وسهولة، كالأمر بالصلاة في قوله: ((وَأََقِيمُوا الصَّلاةَ))، فيكون بذلك قياساً منطقـيـّاً، هذه كيفيته:
الـمقدمة الصغرى: (الصلاة مأمور بها) في قوله (تعالى): ((وَأََقِيمُوا الصَّلاةَ))، وهذا دلـيـل تفصيلي.
المقدمة الكبرى: و(كل مأمور به واجب)، وهذه قاعدة أصولية، أو دليل كلي إجمالي.
النتيجة: (الصلاة واجبة)؛ وهذه النتيجة حاصلة بإسقاط الحد الأوسط المكرر)(7).
ب- القياس الاستثنائي المتصل:
وهـــو الذي تكون مقدمته الكبرى: قضية شرطية متصلة، مركبة من قضيتين حمليتين قُرِنَ بهما صيغة شرط.
ومقدمـتـــه الصغرى: قضية حمليّة، مذكورة في المقدمة الأولى بعينها أو نقيضها ويُقرن بها حرف الاستثناء (لكن).
ونتيجته: قضية حملية تنطوي عليها المقدمة الكبرى(
![Cool](https://2img.net/i/fa/i/smiles/icon_cool.gif)
.
ومثاله: إذا كانت الشمس طالعة فالكواكب خفية،
لكن الشمس طالعة،
إذن: فالكواكب خفية.
واعلم أن القـيــاس الاسثـنائي المتصل لا ينتج إنتاجاً صحيحاً مطّرداً إلا إذا كانت القضية الشرطية المركب منها لزومية(9).
يقول سعد الدين التفتازاني (رحـمــه الله): (وإذا اسـتـدلـلت على مسائل الفقه بالملازمات الكلية مع وجود الملزوم، فالملازمات الكلية هي تلك القضايـا، كقـولنا: هذا الحكم ثابت؛ لأنه كلما دل القياس على ثبوت هذا الحكم يكون هذا الحكم ثابتاً، لكن القياس دلّ على ثبوت هذا الحكم، فيكون ثابتاً)(10).
وإذا طُبق هذا القياس على مثال الأمر بالصلاة، فإنه يقال:
إن كانت الصلاة مأموراً بها، فهي واجبة،
لكن الصلاة مأمور بها،
إذن، فالصلاة واجبة.
كــمـــــا أنها قد سبقت عبارة الدكتور يعقوب الباحسين في استعمال هذا النوع من القياس المنطقي(11).
رابعاً: حكم استعمال الأقيسة المنطقية في كيفية التخريج:
اختلف الأصوليون في حكم استعمال الأقيسة المنطقية (القياس الاقتراني الحملي، والقياس الاستثنائي المتصل) في عملية ترتيب مقدمات الحكم الشرعي، على قولين، هما:
القول الأول: جواز استعمال هذين القياسين في عملية ترتيب مقدمات الحكم الشرعي.
وممن ذهــب إلـى هـــذا القول: أبو حامد الغزالي(12)، وصدر الشريعة(13)، وسعد الدين التفتازاني(14)، والبناني(15)، والعطار(16)..
القول الثاني: عدم جواز استعمال هذه الأقيسة في عملية ترتيب مقدمات الحكم الشرعي، وإنما يُقتصر على الأساليب العربية فحسب.
وممن ذهب إلى هذا القول: أبو الوليد الباجي(17)، وابن الصلاح(18)، وابن تيمية(19)، وابن القيم(20)، والمازري(21)، والشاطبي(22).